Monday, August 03, 2009


طبيعة الانسان والكيانات السياسية
كيف يمكن فهم محركات وآليات تكون الدول والنظم الاجتماعية انطلاقا من افتراضات حول طبيعة الانسان

د شوان خورشيد
القسم الاول-
إن الميزة المهمة للانسان هي القدرة على اكتساب المعرفة والمرونة الجسدية والذهنية التي تمكنه من الاستفادة من المعرفة. المعرفة لها اهمية كبيرة لقابليتها على تنظيم افعال واعمال وقدرات الافراد لتجعلمنهم قوة سياسية واقتصادية واجتماعية. تخيل اداة مخترعا تقتنيهاالملايين من الناس، وتجلب ثروات هائلة للمخترع، شرط وجوده في ظروف مناسبة. وتخيل جماعة صغيرة من المتحمسين تتوارد على اسلوب تنظيم لقواها وتنتهي بالسيطرة على بلدان واصقاع.
ملاحظة هذه الميزة لها اهمية نظرية كبيرة عندما تستخدم في السياق المناسب. هذا السياق يتوفر لنا ضمن فهم خاص لطبيعة الحياة وطبيعة الانسان ككائن حيوي. فيما يخص طبيعة الحياة، فليس هناك غنى عن النظرية الداروينية الحديثة التي ترى ان الحياة هي ظاهرة تعكس نشاطات الجينات التي تستنسخ نفسها وتتكاثر بسبب خاصيتها الكيمياوية.
بقاء الجينات مشروط بايجاد الموارد المطلوبة للتكاثر. ولهذا، فان الجينات التي استطاعت البقاء خلال البلايين من السنين التي تلت ظهور الحياة هي تلك التي تطورت بحيث اصبحت تستطيع بناء روبوتاتها (بمعنى اخر الكائنات الحية التي تحملها)،. ولكن بناء الروبوتات ليس كل ما في الامر. فهذه الروبوتات يجب ان تكون قادرة على المنافسة، لكي تحصل على الموارد الضرورية لتكاثر الجينات الموجودة في داخلها.1 غير إن المنافسة هنا قد تتخذ اسلوب التعاون ايضا. ولذلك عندما يرى الدارويني الحديث ابا، على سبيل المثال، يسعى جاهدا في سبيل طفله فانه سيرى في ذلك شكلا من اشكال الغيرية من جانب الاب. ولكنه في نفس الوقت سيرى ذلك مثالا على قدرة الجينات على إستخدام الافراد لغرض ضمان تكاثرها، وخاصة عندما تكون المساعدة ضرورية لبقاء الطفل. هذا الموضوع، ولاشك، مشوق الى ابعد الحدود. ومع انني لم اعرض غير جزء صغير منه، فعلي مع ذلك التوقف لتجنب صرف الانتباه عن الهدف الاساسي لهذه المقالة.
وعلى الرغم من ذلك، فالجزء المعروض من السياق يوفر لنا البعد المطلوب لفهم خاصية ضرورية لفهم الحياة بشكل عام والانسان والسياسة من ضمنه. الخاصية المقصودة هنا هي المنافسة. هذه الخاصية تلاحظ على كل الاحياء كما ينبغي توقعه من سياق الفقرة السابقة. وتتم المنافسة بطرق مختلفة، وبالنسبة الى الانسان فسأفترض ان جزء من منافساته تتم عن طريق المعرفة بغض النظر عما اذا كانت تلك المنافسة واعية او مباشرة او غير واعية وغير مباشرة. فالشخص القادر على استعمال المعرفة سيكون اوفر حظا للبقاء والنجاح. ولابد كان هذا عاملا اساسيا في تطور الانسان ونمو حجم دماغ اسلافه المتعاقبين من حجم مقارب لدماغ الشمبانزي ليصل الى ثلاثة اضعاف ذلك الحجم خلال الملايين القليلة من السنين التي تلت انفصال اسلافهم.
إذن فالفرضية الاساسية، والى حد كبيرالوحيدة، التي ستشكل البداية المنطقية لتفسير الظاهرة السياسية هي، ان الانسان هو حيوان يعتمد على المعرفة في منافسته للبقاء. ولكن إبتداءً، ماذا يمكن توقعه اذا افترضنا ان الناس تتنافس عن طريق المعرفة وان المعرفة يمكن ان تكون اداة للبقاء والنجاح؟

علينا توقع المنافسة الشريفة، بإن يحاول كل شخص ان يؤتي بفكرة افضل التي قد تكون علمية او تكنلوجية اواجتماعية التي قد تلعب دورا مهما في تنظيم او حل المشاكل الاجتماعية. وعلينا ايضا توقع المنافسة الغير الشريفة، من ضمنها سرقة الفكرة الجيدة، طمسها بالاكاذيب والحيل ومنعها من النشر، الادعاء زيفا بحيازة فكرة جيدة، تدمير المنافسيين والمتشككين جسديا ومعنويا او اقصاءهم. وبالفعل كل هذه الممارسات موجودة ومألوفة للجميع.

ماذا لنا ان نتوقع كنتيجة للمنافسة حول المعرفة ومن خلالها؟
ربما هناك الملايين من الافكار التي اثبتت اهميتها وجدارتها في التطبيق والتكنولوجيا. وعليه يمكن القول إن التطبيق والتكنولوجيا هما ميدانين من ميادين اختبار الافكار. هناك ايضا المؤسسات العلمية والابحاث التي تقوم بنفس الدور الاختباري للافكار. وهنا قد يثار سؤالا، الم يكن من المفروض ان تظهر المؤسسات العلمية مع ظهور امكانية المنافسة الفكرية لدى الانسان، في حين انها لم تظهر الا الى ماقبل عدة قرون فقط؟ هنا من الممكن ان نعدد عدة اسباب لهذا التأخر : اولا، الحصول على المعرفة ليس سهلا. فحتى في يومنا هذا، مثلا، لا يوجد ادراك واضح بان اهم مهام المؤسسة العلمية هي تنظيم المنافسة الفكرية، بالرغم من ان هذه المهمة تمارس مع ذلك. سبب آخر لهذا التأخر هو ممارسة الاساليب الغير الشريفة للمنافسة (ذكرت اعلاه)، ذلك لان المعرفة مصدر للموارد والسلطات.2
وعلى كل حال، الجواب على السؤال اعلاه هو: ظهور وتطور المؤسسات التي تختبر الافكار. و بمعنى آخر، إن وجود المنافسة عن طريق الافكار يخلق جوا مشجعا للمسائلة والمقارنة وذلك بدوره يشجع على التعمق في اسس ومصداقية الافتراضات المعتمدة. ومن هنا فليست هنالك أية غرابة في حقيقة إن الانظمة الاجتماعية والسياسية التي تسمح للمنافسة وتحد من استعمال العنف كاداة لحسم المنافسة تتميز وتتفوق على مثيلاتها التي لا تتخذ نفس الموقف من العنف. وهذا هو بنظري سبب تفوق مساهمات الثقافتين اليونانية القديمة والبريطانية في العصر الحديث. فما تحقق في هاتين الثقافتين في فترات قصيرة لتفوق ما قدمته عدة انظمة مجتمعة ولعدة عصور .
وفي كل الاحوال، وكما ساتطرق اليه فيما بعد، فإن الشرط الرئيسي للتقدم والازدهار هو إنتفاء العنف وخاصة ذلك اذي يهدف الى حسم المنافسات. لانه عندما ينتفى العنف فان المنافسة قد تنتقل الى المياديين الإبداعية لتعبر عن نفسها في تلك الميادين ومن ثم تحسم. وعليه فليس مستغربا ايضا ان نرى ضحالة وبؤس كل الثقافات التي تعتمد على العنف لحسم المنافسة بغض النظر عن اهدفها.
هل هناك مؤسسات لاختبار الافكار المنظمة للحياة الاجتماعية؟
هذا السؤال محوري، وكما سيتوضح فيما بعد، ان الاجابة على هذا السؤال ستكون المفتاح لفهم الظاهرةالسياسية. ولكن الجواب عليه يحتاج الى التمهيد بتناول عدة مسائل اخرى قبل ذلك، كما يلي.
ماهي مكونات تلك الافكار التي تنظم الحياة الاجتماعية؟ ضمن هذا الباب من الافكار يمكن ان نضع كل الافكار الاخلاقية والدينية والايديلوجية والادارية بالاضافة الى القوانين والدساتير والانظمة التي تحدد عمل وعلاقات الدول والمنظمات داخليا وخارجيا.
ليس كل الافكار المنظمة للحياة الاجتماعية بنفس المستوى من الاهمية. وتشخيص مجموعة الافكار التي تلعب دورا اساسيا في التنظيم الاجتماعي له ضرورة نظرية . حيث كما ساناقش فيما بعد، ان تفاعل وتعامل الناس عن طريق صنف واحد من الافكار المنظمة للحياة الاجتماعية يلعبان دورا مُحّدِداليس فقط للسلطة السياسية ومسارهاالتاريخي بل وحتى في تكوين المنظومات الفكرية.
اعتقد بإن في بالامكان الاستدلال على اهمية كل صنف من الافكار عن طريق ملاحظة ما اذا كان بالامكان الاستغناء عن ذلك الصنف من اصناف الافكار او لا، وكذلك عن طريق ملاحظة فيما اذا كان وجود ذلك الصنف من الافكار ملازما لكل الوحدات الاجتماعية.
بناء على الاسباب التالية سافترض ان الافكار الاخلاقية هي الاساسية: لانها لاتنعدم من اية وحدة اجتماعية، غير متناحرة داخليا، ولأن الكثير من الوحدات الاجتماعية قد تخلو من باقي اصناف الافكار ولكنها لاتخلو من الافكار الاخلاقية. في الحقيقة ان هناك تكهنات بان حتى الشامبنزي لديه بعض المفاهيم الاخلاقية كما يؤكده العالم الهولندي الاصل فرانس دي والFrans De Waal.
ألاخلاق ليست من الدين
هنا قد يثار اعتراض مفاده ان الدين هو ايضا صنف من الافكار الاساسية. هذا افتراض غير صحيح. اولا فهناك تجمعات غير دينية، ولكن لا يمكن وصفهاباللاخلاقية، الا اذا عُرِّف الاخلاق بشكل حصري واستثنائي. وثانيا هناك غموض حول تعريف الدين. فليس كل الديانات متبلورة او مركزية بنفس المستوى. فهناك ديانات (خاصة ما تسمى الديانات الوثنية) التي كانت موجودة قديما وبعضها لاتزال، لا تتعدى كونها افكار مشتتة حول الكون والحياة. علاوة على ذلك لايمكن حتى تمييز الدين من بعض الايدلوجيات مثل الشيوعية والقومية او الفاشية. فمعظم الجماعات الايدلوجية لها مفاهيمها الخاصة للحياة والكون، ولها ارتباطات عاطفية قوية بتلك المفاهيم، ولها رموزها المبجلة واضرحتها المرتادة من قبل المتحمسين منهم، ولها اناشيدها التي لا يمكن اغفال شبهها بالتراتيل الدينية، ولها ايضا مناسباتها لتحيها. وفي كل هذه الظواهر لا يمكن اغفال تلاقي اوتشابه الاديان و الايدلوجيات. ومع ذلك ليس هناك من يدعي ضرورة الايدلوجيات للاخلاق.
وكما ساطرح فيما بعد، ان الاديان والايدلوجيات تكتسب اهميتها لأرتباطها بدور معين وتحت ظروف معينة. الدور المقصود هنا هو، تنظيم المنافسة التي تحصل عن طريق الافكار الاخلاقية. والظروف المقصودة هنا، هي جهل او تجاهل الناس وخاصة المتنفذين منهم بطبيعة الصراعات التي تكتنف الصراع على السلطة السياسية التي تتم عن طريق المنافسة بالافكار الاخلاقية، وجهلهم للسبل الاكثر انسجاما مع مقومات الاخلاق. والسبب الثالث لرفض هذا الاعتراض هو ان الدينين من الناس ليسوا بافضل اخلاقيا من اللادينين اطلاقا، ان لم يكن عكس ذلك صحيحا كليا.3 وكل هذه الاسباب تدل على ان الدين ليس ضروريا للاخلاق.
وفي كل الاحوال، ادعاء ارتباط الاخلاق بالدين مناقض للعقل في الحقيقة،ويؤدي الى مفارقات قد تكون مضحكة واحيانا مفجعة. والسبب يكاد ان يكون واضحا،بالرغم من عدم ملاحظته عادة. اذا زعم ان الدين هو منبع الاخلاق وزعم ايضا ان الرب لا يقبل للناس الا دينا واحدا، فإن ذلك سيعني إنه لايوجد في العالم اي انسان خلوق خارج جماعة دينية معينة. ولكن ماذا سيحل إذا لم يتم الاقرار بمصداقية حتى ذلك الدين؟ الا يعني هذا، انه اذا صدقنا كل المتدينين فسيتوجب علينا حينه ان نسلم باننا نعيش في عالم مزري حيث لايوجد اي انسان خلوق إطلاقا؟
ولكن إذا قبل الدينين بصلاحية كل الاديان كمصادر للاخلاق فسيقعون في مشكلة عويصة اخرى. إذ كيف سيفسرون الاختلافات الاخلاقية الواضحة بين دين وآخر. فإذا كان التحجب مطلوبا في دين وغير مطلوب في دين آخرأفلا يعني ذلك ان التحجب هو صحيح وغير صحيح في آن واحد. واذا كان تعدد الزوجات جائزا في دين واحد، وكان تعدد الازواج جائزا في دين آخر، أفلا يعني ذلك إن كلا الشكلين من الزيجات صحيحين. تخيل الامر عندما يصل الامر الى حد يقول فيه دين: "لا تؤمن بذلك الدين او النبي!" ودين آخر يقول لك "بالاحرى لا تؤمن بدينهم ونبيهم!" فهل سيكونان صحيحين في آن واحد؟ إذاً فالدينين في مأزق او بالاحرى ورطة نظرية اخلاقية، لايحسدون عليها، سواء قبلوا بالتعددية الدينية او لم يقبلوا بها.
وهذه ليست نهاية المطاف لمأزقهم مع سلبيات ربط الاخلاق بالدين. فماذا يحدث مثلا لأمراة اذا لم تقتنع بصلاحية الاخلاق الدينية التي تطالبها بالقبوع في المنزل، أسراً للعائلة، والتحجب ضد رغبتها. ولم تقتنع كذلك بافضل الاغرآت او الحجج المعروضة عليها؟ أتبقى حيلة اخرى غير ارغامها بالقوة او التهديد بالقوة؟ ألم تؤدي هذه الحالة الى إراقة الدماء وتشويه وحرق الوجوه والاجساد بالحوامض؟
ويؤدي ربط الاخلاق بالدين الى عاقبة اخرى وهي الغاء العقل. فعندما يقال: "عليك ان ترضخ لهذه الاخلاقية لأن هذا هو ما يريده لك ربك!" بغض النظر عما إذا اقتنعت به او لا، فمعنى ذلك هو سد الطريق على الحوار والمحاججة مع الشخص المقابل، لإنه بذلك سينتحل لنفسه دور الملقن الذي يوصل كلام الرب الى الآخرين وليس كمحاور. فالرب المفترض لا يدخل الحوار. وهنا لا يبقى للمتلقي الا حلان فاما ان يرفض ذلك الرب ويخاطر بالاصطدام مع الملقن ومع من يدعمونه، او يعارضه في تفسيرالنصوص الدينية. وفي كلتا الحالتين فان عقلانية المتلقي تلتغى. ففي الحالة الاولى سيصبح مارقا من غير اعتبار اجتماعي، وفي الحالة الثانية سيفقد مكانته كحاكم يعمل عقله في الامور، ليتحول طواعية الى تابع ومفسر مقيد بنصوص. وحتى هذا قد لايسعفه فلربما لا يرى في النصوص ما يفيد وضعه. وقد لا يعرف شيئا عن تلك النصوص. وهذا يفسردكتاتورية او على الاقل الهيمنة الاجتماعية رجال الدين في الثقافات التي تقبل بربط الاخلاق بالدين.
ماهية العوامل التي تجعل الاخلاق ممكنا؟
باعتقادي ان تطور امكانية السلوك الاخلاقي جاء نتيجة لتظافر عدة عوامل. العامل الاول هو القابلية النفسية والعقلية للامتثال والتعامل مع القيم (المعرفة المعنية بتقييم صفات وسلوك الافراد من حيث تاثيراتهم الاجتماعية وكذلك كمزودين للموارد): هذه القابلية هي شرط اساسي للتعامل مع القيم الاخلاقية وكذلك القيم الايدلوجية وبظمنها الدين. بطبيعة الحال هذا الجانب يعتمد على المادة العضوية الدماغية، وبالاخص ارتباط العواطف مع الافكار. وعليه، وكما يؤكد انتونيو دماسيوAntonio Damasio، فان تلف في مراكز او خطوط الاتصال بين الافكار من جهة والمراكز العاطفية سيؤدي الى تدهور في الالتزام الاخلاقي.
والعامل الثاني هو الظروف البيئية التي مكنت تطور القدرة الاخلاقية. أن الظروف الطبيعية للارض تُمّكِن وجود حياة تعتمد على المعرفة للحصول وانتاج الموارد. ولكن هذه الامكانية مشروطة بوجود القابلية الاخلاقية التي تمكن الامتناع عناو التسامى علىالاساليب الافتراسية والاحتيالية. وعليه يمكن القول ان تطور القدرة على استعمال المعرفة لانتاج الموارد كانمقرونا بتطور القدرة الاخلاقية.
والثالث هو وجود حيوانات قابلة للتطور وقادرة على استيطان الفسحة البيئية المتوفرة. وبمعنى آخر عرضت البيئة فسحة لحيوان يكسب قوته عن طريق استعمال المُكثّف للمعرفة. وبالمقابل كان هناك نوعا من القرود العليا الذي كان يمتلك المواد العضوية القابلة للتطور لتكسب القدرة على استعمال المعرفة واستيطان تلك الفسحة.
والعامل الرابع هو ايضا القدرة على تكوين الافكار الاخلاقية. ان طبيعة هذه الافكار وتأثيراتها ستكون مركز اهتمامي الرئيسي، لأن فهم هذه الافكار سيمكننا من فهم كل وجوه السياسة، من ضمنها الدولة والتاريخ السياسي والافكار السياسية.
لماذا تتكون وتدوم بعض الكيانات السياسية ولماذا لا يعم التناحر في كل العالم؟
بغض النظر عن تسمياتنا اونعوتنا، هناك افعال اذا قامت بها شخص ما فانه سيلحق الضرر بلاخرين. وبالمقابل هناك ايضا افعالا مفيدة للآخرين. وكما هو واضح تماما، ان هذه الحالة ليست مقتصرة على الانسان. وكما هو حال بعض الحيوانات فالانسان ايضا يحاول ان يتجنب او يصد عن نفسه الضرر، ويلزم رفقة الذين يرجو منهم الفائدة، وكذلك يتواجد في البيئات التي ترتبط في ذهنه بالاحداث الايجابية.
وبالنسبة لحيوان قادر على الكلام والتفكير علينا ان نتوقع التعبير عن الرغبات والتوجهات التي تشجع اواحيانا تكافئ ماهو مفيد وتحبط وتثني عماهو مضر، او حتى يتصدى له جسديا. واكثر من هذا لنا ان نتوقع ان حيوانا اجتماعيا يتعرض الى سلوك ضار ان يحاول تحشيد الاخرين وتعبئتهم لقمع السلوك الضار والقائمين بها . على سبيل المثال، إذا اتفقت جماعة من الناس على إعتبار سلوكا معينة كضار او مسيئ، فلربما يبادر بعض القادرين منهم (وهذه المبادرة قد تكون توخيا للمكانة الاجتماعية او مال او حبا بألاهل او آخرين)، على التصدي لتلك الاعمال المرفوضة او القائمين بها. إذن فيمكن ان نرى في مثل هذه الامور الحياتية البوادراو المحركات الاولية لقيام السلطة السياسية.
ولكن الصعوبة تكمن في ان الناس قد تتفق على امور محددة ولفترات محدودة ولكن نادرا ما تتفق دائما وعلى جميع الامور. إذن فماذا سيحدث للسلطة السياسية؟ لنا ان نتوقع عدم تكون السلطة السياسية او تفككها اذا كانت متكونة،وحتى تحول العلاقة بين مكوناتها من تعاون الى تناحر. هذه الامور مالوفة وليس هناك حتى داع ،في الحقيقة، الى تقديم امثلة. واذن فالامر المستغرب هو ليس وجود التفكك والاحتراب والفوضى وانما نشوء واستمرار سلطات وانظمة سياسية وعدم توسع نطاق التقاتل والتناحر لتشمل كل العالم.
فكرة كهذه لابد ان تذكرنا بجون هوبز John Hobbes الذي اعتقد بإن الحالة الطبيعية للانسان هي الحرب الدائمة من قبل كل رجل ضد كل رجل آخر. وفي نفس الوقت رأى ان الانسان في الحالة الطبيعية لايمتلك اخلاقا وانما الاخلاق تبرز نتيجة معاهدة بموجبها تتخلى الرجال عن بعض حقوقهم لصالح الطاغية او الدولة الجبارة والتي من المفروض ان تدخل الرهبة والخشوع في نفوس رعاياها. ما اطرحه هنا لا يطابق طرح هوبز. فوجود الاخلاق بنظري لم يأت نتيجة معاهدة. وإنما الاخلاق هي جزء مكّوِن من القدرة على اكتساب المعرفة والتعامل من خلالها. فطالما كان بمقدور بعض الناس الاعتماد على المعرفة كسبيل لتوفير الموارد وكان هذا الاسلوب قابلا على الاصطدام بالاساليب الاحتيالية و الافتراسية، فستبقى الاخلاق ضرورية. هذه الحاجة الى الاخلاق ومجابهة الاساليب اللاخلاقية ستخلق حاجة دائمة للسلطة السياسية. وعليه يمكن القول ان كل وحدة اجتماعية تحمل في داخلها جنين دولة او نظام سياسي. غير ان ولادة الدولة تحتاج الى معرفة كيفية الاتفاق على القواعد الاخلاقية.
القسم الثاني سيتناول الطرق التي توصل اليها الانسان لتخطي العقبة المعرفية لتكوين الدولة او النظم السياسية.
المصادر
.Dawkins, R. (1989). The Selfish Gene. Oxford University Press
.Dawkins, R. (2006)، The God Delusion. Bantam Press
. De Waal, F. (1996). Good Natured. Harvard University Press
. Damasio, A. (1995). Descartes’ Error. Picador
.Hobbes, John، Leviathan، electroic text
. Smart, N. (1998). The World’s Religion. Cambridge University Press
Wilson, E. O. (1978). On Human Nature. Harvard University Press.

No comments: